وجدت هذه المقالة المفيدة بخصوص سلامة الطرق والإسلام. أرجو أن يعذرني كاتبها لنشرها في المدونة قصدت بذلك تعميم الفائدة جزاه الله خيراً. رابط المقالة الأصلية هنا، مع التنبيه أن المقالة الأصلية في صيغة ورد (DOC).
For an English translation (Via Google) of the post please click here.
السلامة المرورية من منظور الإسلام
إعداد
د. أحمد بن يحيى بن أحمد الكندي
أستاذ الحديث وعلومه المساعد بقسم العلوم الإسلامية – جامعة السلطان قابوس
الإســـلام دين الرحمــــة والعناية بالإنسان في كل جوانب حياته ، وكيف لا يكون كذلك وهو رسالة الرحمة التي اختارها الله العالم بما يصلح البشر ويحقق رسالتهم في الحياة ، ويمكن القول إن نظرة الإسلام للسلامة المرورية تنبثق من جملة من الأمور المكونة لمجموع هذه النظرة وهي كالآتي :
أولا : قيم إيمانية تؤثر في ضبط سلوك الإنسان وطريقة سيره:
أكدّ الإسلام على عدد من القيم التي يجب استشعارها في حياة الإنسان ، وهذه القيم – عند استشعارها – تساعد في ضبط سلوك الفرد ومن ذلك طريقته في قيادة سيارته وسلوكه في الطريق، ومن هذه القيم التي يجب حضورها ما يأتي:
إدراك غاية خلق الإنسان وهو عبادة الله ، واستحضار هذه العبادة في كل سلوكيات الإنسان وأفعاله ، وهذا ترجمة حقيقية لقول الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات آية56)، وهذه العبادة أمر واجب محتم ، وكل ما يؤدي إلى تحقيق هذه الغاية هو واجب ، وأما ما يخل بها فهو محرم ، ولا شك أن مراعاة السلامة المرورية مما يعين على تحقيق غاية العبادة ، ويحقق سلامة هذه العبادة ؛ إذ لا يجتمع صلاح العبادة والإفساد في الأرض بوجود اللامبالاة في قيادة السيارة، أو عدم تطبيق آداب الطريق .
وجوب استشعار قيمة النعم التي أنعم الله بها علينا والتي لها أثر في حياة السائق ويجب رعايتها ، فالصحة والحواس والجوارح أمانة ، قال الله تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) (الإسراء آية 36) ووسيلة النقل ونعمة الطريق كلها نعم يجب صونها والحفاظ عليها ، فالله يقول: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [النحل آية8] ، ولا شك أن وسيلة النقل ذات فوائد جمة ، فهي تخفف عناء السفر، وتقلل المشاق والمتاعب التي كان يواجهها في رحلاته وتنقلاته ، وتجمع بين تقريب المسافة واختصار الوقت وتوفير المجهود ، ولأداء حق هذه النعمة يجب طاعة الله في هذه النعمة وتوجيهها ، وقد قال أهل العلم في حد الشكر أنه " صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لأجل ما خلق له.
إرشاد الإسلام إلى توخي السلامة والمحافظة على النفس والحياة ، فإن النفس والحياة أمانة في يد الإنسان يحافظ عليها ، ويحرم أي وجه من وجوه الإضرار بالنفس أو الحياة فضلا عن إتلافها والاستهتار بها ، وقد تعددت النصوص المحرمة لإيقاع الإنسان الضرر على نفسه وكذلك على الآخرين ، وكل ما يؤدي إلى إتلاف النفس يدخل ضمن الانتحار المحرم والمؤدي إلى الخلود في نار جهنم ، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (عن أبي هريرة رضي الله عنه : عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ( من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ).
يوجب الإسلام على الفرد الرعاية الكاملة لمشاعر الآخرين ومحبتهم ورعايتهم ، وعدّ الإسلام ذلك ضرورة إيمانية ، وثمرة لسلامة الإيمان وترجمة حقيقية له مؤكدا عليه في نصوص كثيرة ، كقوله تعالى : (إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات آية10) وحديث (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لغيره ما يحب لنفسه) ، بل إن الإسلام يحرم التسبب في أي وجه من وجوه الأذى ، وحرم مس داء الناس وأموالهم وأعراضهم ، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم) ، وهكذا حرم الإسلام كل ما يؤدي إلى الإضرار المادي والمعنوي بالآخرين ، واستحضار قائد المركبة والسيارة لهذا الأمر سيدفعه بلا شك للحذر في تعاطيه مع الآخرين، والاجتهاد لحماية أرواح الآخرين وضمان سلامتهم.
ثانيا آداب الطريق وأخلاقها وأثرها في السلامة المرورية:
يؤكد الإسلام على عدد من الأخلاق والآداب التي يجب التزام المار بها ، وهذا توجه أكثر تخصيصا للعناية بالطريق ، ومن ثم تجنب كل أضرارها على المار بها وعلى الطريق نفسها ، والمتأمل في ما فرضه الإسلام من آداب للطريق يجد أن الالتزام بها ضرورة لتحقيق السلامة المرورية، وقد حدّ لنا نبي الرحمة والهدى جملة آداب وأخلاق لضبط سلوكنا وحثنا على الالتزام بآداب الطريق ومراعاة الآداب العامة فيه وهي على النحو الآتي:
من أهم الآداب التي أوجبها الإسلام كحق للطريق والمار بها كف الأذى، ولعل التوجيه النبوي المتقدم الذكر أصل في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم (والمؤمن من أمنه الناس...) ، والنص يوجب على كل سائق سيارة الالتزام بهذا التوجيه ، فلا يجوز أن يؤذي قائدي السيارات أو المشاة ، ولا يعرض أرواحهم للخطر ، وبناء على ذلك ينبغي الالتزام بكل لوائح الطرق ، وعليه إذا قاد سيارته التقيد بالسرعة الآمنة المحددة والضامنة لسلامة الجميع.
إن المحافظة على الطرق سليمة نظيفة وإماطة الأذى عنها يمكن اعتباره من أهم آداب الطريق وهذا يساعد في تحقيق السلامة المرورية ، وقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى شعبة من شعب الإيمان فقال (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ، ولنتأمل حديثا آخر وفيه جاء (.....وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة......، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة.....) ، وقد أشار النص السابق إلى أدبين مهمين هما إماطة الأذى وإرشاد الناس الضالين في الطريق ، وهذا خلق أيضا يؤدي إلى حفظ سلامة الناس في الطريق.
إن كف الأذى مؤكد عليه في حديث آداب الطريق وحقوقه فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إياكم والجلوس في الطرقات " قالوا يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه " قـــــالوا وما حقه قال:" غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
إن النصوص الواردة في كف الأذى متعددة وكثيرة ، وهي تشير بجلاء إلى تنوع صور الأذى ، ولعل أكثر صور الأذى مؤثرة في سلامة المار في الطريق ، والأذى يتضمن كل ما يؤذي المسلمين من قول وعمل.
فمثلا إزالة الأشجار المؤذية للطريق والمارة وضمن ذلك كل ما يسبب حوادث الطرق يعد من أهم ما يحقق منع وكف الأذى ، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي الناس).
بل إن منع كل أذى وإزالة كل أذى عن الطريق كان وصية النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد روي أن أبا برزة رضي الله عنه طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه شيئاً ينتفع به فقال له: (اعزل الأذى عن طريق المسلمين) ، ويبلغ الأمر حدا عظيما في الفضل حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخَّره، فشكر الله له؛ فغفر له) .
إن النصوص السابقة تبين فضل إزالة الأذى عن الطريق ، وبمقابل ذلك هناك نصوص تبين عظيم ذنب من يتعمد إيذاء الناس في طرقاتهم ومجالسهم برمي المخلفات في طرق الناس ومتنزهاتهم، وأماكن استظلالهم ، وفي حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من آذى المسلمين في طرقهم؛ وجبت عليه لعنتهم)، واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم المتخلي في طرق الناس ملعونا ، ففي حديث أبي هريرة: (اتقوا اللعَّانين) قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: (الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلِّهم).
هذا وإن الناس تساهلوا فيما يرمونه في الطرقات ، وبدلا من أن يقوموا بإزالة كل أذى في الطرقات يضر الناس ويعرض سلامتهم في الطريق ، تراهم يرمون مخلفاتهم وأذاهم في الطريق ، ولئن صار الناس يستسهلون هذا الأمر فهل يدرون أن الإسلام جرم هذا الفعل ، وهو صورة من صور الفساد المنهي عنه في الأرض، فهو مشمول بعموم النهي في (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) (ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، ولربما أدى ما يرميه الناس إلى حوادث مميتة فيكونون قد تسببوا في هلاك غيرهم أو إتلاف سيارته أو إيقاع ضرر بها ، فهم في ذاك ضامنون لذلك الأذى والضرر، والشرع الإسلامي الحنيف قد حملهم نوعين من المسؤولية ؛ دنيوية وأخروية ، أما الدنيوية فضمان التلف ماديا ، وأما الأخروية فالعقاب الإلهي على الفساد.
ومن آداب الطريق المشي والركوب على هون ، فقد مدح الله عباد الرحمن بهذه الصفة فقال : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا..) (الفرقان آية 63) ، ومع عموم هذه الصفة إلا أن حضورها عند المشي وتبعا لذلك في قيادة السيارة ألزم ، إن الأمر يتجاوز مشية الهون إلى التنبيه إلى ضرورة وجود شخصية متزنة، ونفس سوية يتجليان في مشية كلها وقارٌ وسكينةٌ.
إنه المشي الهون المناسب للرحمة في عباد الرحمن، وحين يكون السير مع الرفاق فلا يتقدم من أجل أن يسير الناس خلفه، ولا يركب ليمشي غيره راجلاً ، وهذا الأمر يجب تحققه في راكب السيارة فلابد أن يسير بطمأنينة وسكينة بلا تهور أو لا مبالاة.
ومن آداب الطريق غض الصوت وخفضه ، والذي يظهر أنه أيضا ترجمة للشخصية السوية ، والمتأمل في قوله تعالى : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان آية19) يلمس هذا الربط المحكم بين القصد في المشي وغض الصوت، ويحضرني هنا صورة الشباب المستهتر الذي يمر على الأحياء منطلقا بسيارته غير عابئ بمن يصيب وصوت مسجل السيارة يرجف فجمع خصلتين تعبران عن شخصية مريضة غير سوية ولا مستقرة، والعجب من الآباء الذين يرضيهم ذلك في أبنائهم ، إن مثل هذه الخصال تعبر عن رعونة بينما يعبر غض الصوت عن خلق الرفيع، وهذا في الطريق، وأدب الحديث أوجب وأولى ، وهذا معبر عن الثقة بالنفس، وسلامة التربية.
ومن آداب الطريق غض البصر وحفظه عن التطلع على العورات: وهذا من حق الطريق كبعض ما ذكر سابقا ، قال صلى الله عليه وسلم : (قالوا وما حق الطريق يا رسول الله ؟ قال ( غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وهكذا فمن حقوق الطريق حفظ الحرمات وعدم التطلع على العورات، وحفظ البصر فإن النظر مفتاح الخطايا، وحين نتأمل النص السابق نجد أن كل الآداب المشار إليها لها أثر في الطريق وسالكيه ، ولم يأتي ذكر غض البصر اعتباطا ، فبالإضافة إلى عظيم ضرر النظر في فتح أبواب الفتنة على الإنسان هناك جانب أخر مهم في سلامة المار والمارين في الطريق بما يحقق السلامة المرورية ، وذلك لأن الانشغال بالنظر وتتبع العورات والناس يؤدي إلى وقوع كثير من الحوادث ، وكم من الحوادث المميتة وقعت بسبب انشغال النظر وعدم تركيز السائق في قيادته للسيارات، والذي نراه إن هناك تكاملا للنظرة القيمية لهذه الآداب الإسلامية ، وفي حال تطبيقها تمثل عنصر نجاة ووقاية وتحقيق للسلامة المرورية.
ومن آداب الطريق اعتبارها ملكا للجميع ، فهي مرفق من المرافق العامة ، ومن حق الجميع الانتفاع به ، ولكن بشرط أن لا يضر ذلك الانتفاع الآخرين ،والطريق في نظر الإسلام لها منفعة أصلية تتمثل في المرور فيه ، غير أنه أبيح بعض وجوه الانتفاع الأخرى ، وهذه الإباحة للانتفاع بوجوه الانتفاع غير المرور بشرط تحقيق حقوق الطريق ومن ثم منع كل ضرر قد يقع للمارة ، ولذلك جاء النهي عن بعض الآداب كما تقدم وأبيح الجلوس في الطريق بتحقق تلك الشرط ويؤكد وجوب دفع أي ضرر حديث (لا ضرر ولا ضرار).
وقد أكد الفقهاء حرمة التصرف في الطريق النافذة " الشارع " بما يؤدي إلى ضرر المارة في مرورهم ، وذلك لأن الحق في مثل هذا الطريق لعامة المسلمين ، ولا يجوز لأحد أن يضارهم في حقهم.
وقد وردت بعض المنهيات في الطريق التي تؤكد كون الطريق حقا عاما ينبغي صونه، ويصل الأمر حد كبيرا حين يرد النهي عن الصلاة في قارعة الطريق مع عظم شأن هذه العبادة ، وكذلك مُنع المسلم من التعريس على الطريق ، فقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم :(إذا عرستم فاجتنبوا الطريق فإنها طرق الدواب ومأوى الهوام).
ومن آداب الطريق السعي ليكون الطريق أمنا وآمانا ، وتحريم كل صور الترويع والتخويف في الطريق ، واعتبر الإسلام قطع الطريق وإخافة السبيل من أكبر الكبائر ، وفرض لها حدودا واعتبر الله مرتكبيها : محاربين لله ورسوله وساعين في الأرض بالفساد وفرض لها عقوبة شديدة قال الله عز وجل :(إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض)(المائدة آية 33) واعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أن لاحق للانتساب هؤلاء المفسدين للإسلام ، وقد قال علية الصلاة والسلام :( من حمل علينا السلاح فليس منا ).
وجاء النهي عن كل ما يؤدي إلى الترويع في طرق الناس ، ولذلك منع استخدام السلاح أو حمل ما يخيف الناس قال صلى الله عليه وسلم : (إذا مر أحدكم في مجلس أو سوق وبيده نبل فليأخذ بنصلها ثم ليأخذ بنصلها ثم ليأخذ بنصلها ).
رابعا : القواعد المرورية وتأصيلها الشرعي:
يمكننا التأكيد على قابلية الشريعة الإسلامية لاستيعاب مشاكل العصر ومواكبة مستجداته. ولا ريب أن الإسلام يجمع بين مراعاة الجوانب الفردية ، والمتمثلة في جوانب العبادات والمعاملات الشخصية، وبين باقي جوانبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بتنظيم المجتمع ، وتندرج القواعد المرورية التي تهدف إلى صلاح سير الإنسان وترشيد قيادته للسيارة ضمن ما يمكن استلهام القواعد الشرعية والمقاصد الشرعية في حفظ النفس والمال وأثر ذلك التأصيل في تفعيل هذه القواعد والضوابط ، وضمن ذلك يتم ضبطها لتراعي مصلحة الإنسان وليس الإضرار به وتكليفه العنت والمشقة
ثم إن الجناية في الحوادث المرورية معتبرة شرعا، وتبعا لذلك يرد الضمان المالي دنيويا ، وهكذا التوفيق الأخروي.
وهناك بعض الحوادث التي تلزم وجود أحكام له ، ولذلك بحث مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بعض الأحكام المتعلقة بحوادث المرور المعاصرة ، وبعد اطلاعه على البحوث التي وردت إليه بهذا الشأن واستماعه للمناقشات العلمية التي دارت حوله ، وبالنظر إلى تفاقم حوادث السير وزيادة أخطارها على أرواح الناس وممتلكاتهم ، واقتضاء المصلحة سن الأنظمة المتعلقة بترخيص المركبات بما يحقق شروط الأمن كسلامة الأجهزة وقواعد نقل الملكية ورخص القيادة والاحتياط الكافي بمنح رخص القيادة بالشروط الخاصة بالنسبة للسن والقدرة والرؤية والدراية بقواعد المرور والتقيد بها وتحديد السرعة المعقولة والمحمولة ، وقد قرر المجمع ما يأتي :
أولاً: أن الالتزام بتلك الأنظمة التي لا تخالف أحكام الشريعة الإسلامية واجب شرعاً ، لأنه من طاعة ولي الأمر فيما ينظمه من إجراءات بناءً على دليل المصالح المرسلة ، وينبغي أن تشتمل تلك الأنظمة على الأحكام الشرعية التي لم تطبق في هذا المجال .
ثانياً: الحوادث التي تنتج عن تسيير المركبات تطبق عليها أحكام الجنايات المقررة في الشريعة الإسلامية ، وإن كانت في الغالب من قبيل الخطأ ، والسائق مسئول عما يحدثه بالغير من أضرار ، سواء في البدن أم المال إذا تحققت عناصرها من خطأ وضرر ولا يعفى من هذه المسؤولية إلا في الحالات الآتية :
إذا كان الحادث نتيجة لقوة قاهرة لا يستطيع دفعها وتعذر عليه الاحتراز منها ، وهي كل أمر عارض خارج عن تدخل الإنسان.
إذا كان بسبب فعل المتضرر المؤثر تأثيراً قوياً في إحداث النتيجة .
إذا كان الحادث بسبب خطأ الغير أو تعديه فيتحمل ذلك الغير المسؤولية
ثالثاً : ما تسببه البهائم من حوادث السير في الطرقات يضمن أربابها الأضرار التي تنجم عن فعلها إن كانوا مقصرين في ضبطها ، والفصل في ذلك إلى القضاء
رابعاً : إذا اشترك السائق والمتضرر في إحداث الضرر كان على كل واحد منهما تبعة ما تلف من الآخر من نفس أو مال .
خامساً : مع مراعاة ما سيأتي من تفصيل ، فإن الأصل أن المباشر ضامن ولو لم يكن متعدياً ، وأما المتسبب فلا يضمن إلا إذا كان متعدياً أو مفرطاً .
إذا اجتمع المباشر مع المتسبب كانت المسؤولية على المباشر دون المتسبب إلا إذا كان المتسبب متعدياً والمباشر غير متعد .
إذا اجتمع سببان مختلفان كل واحد منهما مؤثر في الضرر ، فعلى كل واحد من المتسببين المسؤولية بحسب نسبة تأثيره في الضرر ، وإذا استويا أو لم تعرف نسبة أثر كل واحد منهما فالتبعة عليهما في السواء.
هكذا يمكننا لنا القول أن تعاليم الإسلام كانت ولا تزال المرشد الأول في الدعوة لالتزام أسباب الأمن والسلامة ، وقد سبق الإسلام الثورة الصناعية بقرون بدعوته الى السلامة وكانت نظرته إليها اعم واشمل من النظرة المادية التي نظرتها الثورة الصناعية والنهضة الأوروبية ، إنها نظرة الإنسانية والرحمة والرفق تجمع بين الهدف المادي المحدود والتربوي والنفسي والديني وغير ذلك يقول الله تعالى في (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) ( البقرة آية 194).
ويربط الحديث الشريف هذه الجوانب بعامل الأخوة الدينية التي لا تنفصم عراها فقد جاء في حديث انس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ، وعليه يجب أن يحب المسلم لأخيه ما يحب ويكره له ما يكره ، ومن هنا يتبين انه على كل إنسان سواء كان صاحب عمل أو عامل أو زميل في العمل الحرص على سلامته وسلامه العاملين معه أيضا ولعل هذا يؤكد على وجوب إتباع الإنسان أسلوب السلامة وأصولها في كل أعماله وتصرفاته.
خامسا : فقه النوازل ودوره في الأحكام الشرعية في المرور:
يوجد في الفقه الإسلامي باب يخص المستجدات والوقائع لاستيعابها وإعطاء الحكم فيها عبر فقه النوازل ، وهو فقه يؤكد ويبرهن بجلاء على قدرة الشريعة الإسلامية في استيعاب مستجدات العصور ومواكبة التغيرات انطلاقا من قواعد الشريعة وأصولها العامة ومقاصد الشريعة للوصول إلى فهم سديد للمقصد الإلهي من نصوص الوحي مع ضمان تنزيل هذا المقصد الإلهي بطريقة سليمة في واقع حياة الناس وحركتهم، وصولا إلى تحقيق قيومية الدين على الواقع، وتسديد الحياة وإصلاحها بتوجيهات الوحي وسمو تعليماته.
إن إدراك فقه النوازل باب جليل القدر ، وهو يعتمد على منهج رفيع من مسالك الفقه الإسلامي والمتمثل في رعاية المقاصد الكبرى للشريعة وضمان ربط الأحكام بها، وفهم الغايات من كل حكم شرعي وكذلك الحكم التشريعية.
إن تعرف الفقيه على مسائل النوازل المعاصرة ، واسترشاده بمقاصد الشريعة وأصولها في بيان حكمها باب يمكن توظيفه في مثل أحكام المرور والحوادث ، وذلك يتم بمراعاة المصالح الشرعية لا سيما الضرورية منها ، وهذا كله يسهم في تحقيق مصالح الدين والدنيا ، وعليه لا يمكن إنفراد مصلحة منهما دون الأخرى ، فإذا فقدت مصالح الدين لم تجر مصالح الدنيا على استقامة وطريقة سليمة، بل أدى إلى فساد وفوت حياة ، وتشكل المقاصد الكبرى المتمثلة في حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال ضابطا لضبط كثير من أفعالنا وأقوالنا ومنها طريقة استعمالنا للطرق ووسائل النقل.
وهناك باب المصالح المرسلة الذي يمكن توظيفه في تأطير أحكام الطرق والمرور ، والعلماء اعتمدوا أصل المصالح المرسلة فيما سكت عنه الشارع ليكون رافدا لأحكامه ، ولعل كثير ا من القواعد المرورية تتوافق مع الأدلة والقواعد والضوابط الشرعية ، إنما تحتاج إلى تأطير فقهي، وهناك قواعد يمنكن توظيفها في ذلك كقاعدة رفع الحرج، وجلب المصلحة ودرء المفسدة، وتحقيق اليسر والسهولة، ونفي الضيق والشدة والعنت وغيرها.
ومن أهم المقاصد الشرعية التي يمكن الاعتماد عليها مقصد حفظ النفس والمال ، وضرورة الالتزام بما دعت إليه المصلحة المرسلة من إقرار للقواعد والقوانين المعتمدة تحقيقا للمصالح ودرءا للمفاسد.
وهناك آيات قرآنية كثيرة نصت على ضرورة حفظ النفس وحمايتها من التلف والفساد، وقد ذكر بعض العلماء أن حفظ النفس يحصل بمعان، منها حفظ بقائه بعد خروجه من العدم إلى الوجود، من جهة المأكل والمشرب والملبس والمسكن، هذا مع الموقف الحازم للإسلام من آفة القتل وما يفضي إليه أو يتسبب فيه، ورفض الاعتداء على الخلق بأي شكل من الأشكال.
وأكد العلماء على اعتبار حفظ النسل والعقل ، واعتبار كليهما داخلين في جوانب حفظ النفس البشرية، فإن حفظ المال يكون بدفع العوارض التي قد تعرضه للتلف ، وهكذا حفظ العقل ، وعليه جاء تحريم تعاطي المسكرات لخطرها على النفس وتلفها ، وعلى هذا يكون تحريم وتجريم المسكر للنازل في الطريق وخاصة قائد السيارة أكثر تأكيدا.
وعليه فإن أي جهد هدفه حماية الأنفس والممتلكات وتنظيم حياة الناس ليكفل ذلك هو من صميم الشريعة الإسلامية، ويتوافق مع روحها وأوصافها، وهذا يمكّن من استيعاب الشريعة لكل جوانب الحياة البشرية بكل تقلباتها وتشعباتها.
إن الإرشاد والتعليم لضوابط الشريعة التي يؤكد عليها الإسلام للناشئة والناس ضرورة ، خاصة إذا ربط الأمر بالجانب الإيماني والجانب التعبدي ، وهذا من شأنه التقليل من مخاطر الحوادث المرورية، والسبيل لتفعيل ذلك عبر التربية على ذلك ، وبهدف تكوين وعي جماعي وسلوك مجتمعي ينطلق من قيم الإسلام التربوية السامية الشاملة، بلا اقتصار في معالجة مشاكل المرور على الجانب القانوني فقط.